صراع الإنسان مع البيئة:
تدرَّجت حِدَّة الصراع بين الإنسان والبيئة الطبيعية بمرور الأجيال والأزمان، حيث كان الإنسان في بداية نشأته يستخدم الأدوات اليسيرة في تعامُله مع الطبيعة، وفي ظلِّ التقدم الحضاري، ونُمُوِّ القدرات البشرية الخلاَّقة، والتطور التدريجي على مرِّ العصور - ظهرت الآثار المدمرة على البيئة من جانب، وعلى الإنسان نفسه من جانب آخر، حيث إنَّ الصراع الجديد من أجل الحياة، ثُمَّ من أجل تحقيق الرفاهية والرخاء في المعيشة - أصبح يُلهيه عن الأخطار المحيطة به، والتي تُهدد أمنه وبقاءه، وتُهدد البيئة من حوله، وهذا أدركه الكثير من دُوَل العالم في مجال علاقة "المواجهة بين التَّحدي البيئي ومستقبلِ كوكب الأرض".
فيعيش الإنسان في البيئة، ويتعاملُ مع مُكوناتها، ويؤثر فيها ويتأثر بها، محاولاً توفير حاجاته الضرورية لبقائه واستمراره، ففي الماضي كان هناك وِفاق بين الإنسان وبيئته، بحيث كانت تكفيه مُكوِّناتُها ومواردها وثرواتها؛ إلاَّ أن الزيادة الكبيرة في أعداد السُّكان انعكست على البيئة في ظهور كثير من المشكلات، مثل: استنزاف وإهدار الموارد والثَّروات الطبيعية، وانحسار التربة الزراعيَّة، وتَدَنِّي خصوبتها؛ وبالتالي نَقْص الغذاء وزيادة حجم الفَضَلات والمخلَّفات والنفايات.
كل هذا أدَّى إلى تلوث البيئة، وأصبحت ظاهرةُ تلوث البيئة واضحةَ المَعالم؛ فقد اختلَّ التوازن بين عناصر البيئة، ولم تَعُدْ قادرة على تحليل مخلَّفات الإنسان أو استهلاك النفايات الناتجة عن نشاطاته المختلفة.
بذلك التلوث الذي نخشى عواقبَه بالنسبة لتكوين المياه أو الهواء أو التربة - تتأثر سلبيًّا المواردُ الأساسيةُ التي يعتمد عليها الإنسان في حياته، وغالبًا ما تنشأ هذه المكوناتُ كناتج فرعي لعمليات التنمية - صناعة، زراعة، تعدين - أو بفعل الإنسان نفسه، ولكن الواضح أنَّ إدراكَ أهمية حماية البيئة من هذه المكونات جاء متأخرًا بعد أن تعرَّضَت كل عناصرها للتخريب والتبديد.
قصة الصراع بين الإنسان والبيئة:
إن قصة الصراع بين الإنسان والبيئة قصةُ صراعٍ قديم، قد اختلفت طبيعته منذ بداية الخليقة، فهو قديمٌ قِدَم وجود الإنسان على سطح الأرض؛ حيث إنَّ البيئة هي الإطار الطبيعي الذي يَحيا فيه الإنسان مع غيره من الكائنات الحيَّة، وقد مَرَّت تلك العلاقة بمرحلتين رئيستين كما يلي:
أ – المرحلة الأولى:
ويُقصَد بتلك المرحلة بدايةُ الفصول التاريخية في حياة الإنسان الأولى، حيث كان يَخشى الطبيعة كلها من حوله، سواءً الأعاصير والرياح الشديدة، وظَلَّ الإنسان يعمل تدريجيًّا على حماية وتأمين نفسه، ضِدَّ العوامل البيئية الخَطِرة، سواءٌ أكانت حيواناتٍ ضاريةً أم كائنات فتاكةً، أم تقلُّبات وثورات طبيعية حادةً وقاسيةً، من سُيول وبراكين، وزلازل وفيضانات، وبرودة أو حرارة شديدة، وبدأ التفكير وبذل الجهد؛ للحماية من مَخاطر وتهديدات البيئة، وتحقيق التوازُن الطبيعي للبيئة التي أفسدها بنشاطاته.
ب – المرحلة الثانية:
وفي هذه المرحلة حدث التغير في الموقف بين الإنسان والبيئة المحيطة به بكل عناصرها، وأصبح الإنسان بعد مرحلة خَوْفه من الطبيعة والبيئة من حوله سَيِّدَ الطبيعة، والمتحكم فيها، والمسيطر على مُكوِّناتها، وذلك بعد أن استغلَّ المواهب والملكات العقليَّة التي خصَّه بها الخالق، مميزًا إياه عن الكائنات الحيَّة الأخرى، وأصبح هو الطرف الأقوى الذي يقوم بإخضاع الطبيعة، من خلال عمليات التفاعُل والتطوير لقدراته وإمكانيَّاته ومواهبه، وأصبحت الطبيعة بالتالي موضعَ استغلالٍ قاسٍ يتَّسم - في كثير من الأحوال - بالحمق والشراهة؛ حيث قام البشر باستنزاف موارد ومصادر وثروات الطبيعة المختلفة، سواء أكانت موادَّ خامًا كالمعادن أم متجددة مثل النباتات؛ مما أثار قضية تهديد البيئة بكُلِّ عناصرها المختلفة، من هواء وماء وتُربة وغذاء، حتى إنَّ الزراعة البيئية المحدودة باتت هي الأخرى مُعَرَّضة للخطر، وهي مصدر اللون الأخضر، ورمز الدَّعوة إلى حماية البيئة.
إنَّ الإنسان أمضى نصف تاريخه على الأرض يحمي نفسه من تهديدات ومخاطر البيئة، وسيمضي النِّصف الآخر يحمي البيئة من آثار نشاطه الزراعي والصناعي، وأصبحت البيئة هي التي تُعاني تَهديدَ الإنسان لها وتأثيره الضارَّ عليها.
وبلغ التلوثُ أقصى درجاته؛ بسبب الثورة الصناعية في عصرنا الحديث؛ نتيجة الانفجار السكاني وانتشار الأمراض والأوبئة، ومخلَّفات ونتائج الحروب، وتلوث المياه والبحار بالنفايات والزيوت، وتهديد الكائنات البرية والبحرية في كل أنحاء الأرض.
وبتقدُّم العلوم والمعرفة كان التحضُّر والانتقال من حياة البداوة إلى التَّمَديُن، ومن مرحلة الصيد إلى مرحلة الزِّراعة، ثُمَّ استخدام مصادر الطاقة، ثم التحوُّل من الصناعات اليدوية إلى الصناعات الآلية، ثم السيطرة على الطاقة والانطلاق بها إلى المجال النَّووي، ثم الفضاء، وأمكن التعرُّف على حركات الرِّياح والتنبؤ بظروف الجو، واستخدام كُلِّ هذا لدفع عجلة التنمية الزراعية والصناعية زَادَ من تلوث الهواء المحلي والإقليمي، وهكذا يستمرُّ التلوث في الزيادة المطردة، ويتفاقم معه الموقف البيئي مما يتطلب حماية البيئة من التلوُّث؛ لأن التلوث الذي صنعه الإنسان أصبح يهدد حياته، ومن المعروف أن للبيئة طاقةً محددةً على استيعاب التغيُّرات التي تطرأ عليها نتيجة النشاط الإنساني، فإذا تجاوزت حدَّ طاقتها، أدَّى ذلك إلى خلل يصعُبُ علاجه أو تعويض خسائره، وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ التلوث من جرَّاء نشاط الإنسان في سبيله إلى التنمية - قد أصاب جميعَ العناصر المكونة لبيئته المحيطة من هواء وماء وتربة وغذاء في مختلف الأماكن المحلية والإقليمية، حيث ينبغي أن تكون التنمية من أجل البيئة، والبيئة من أجل التنمية (تنمية دائمة بيئيًّا).
إن هذا يتطلب مرَّة أخرى إعادة التصالح بين البيئة والإنسان، بدلاً من الصراع بينهما، وذلك يتطلب حماية البيئة من التلوث - أفعال الاعتداء على البيئة - باعتباره أكبرَ المشكلات البيئية انتشارًا وخطرًا، وباعتباره أيضًا أكثر أفعال الاعتداء على البيئة وعناصرها المختلفة بفعل الإنسان الإرادي واللاإرادي.