في صحيفة "سودويتشي تسايتونغ" الصادرة في ميونيخ، كتب
هيربرت برانتل، في 25 فبراير الماضي: "هناك سلسلة متكاملة من الأحكام المسبقة
البالية: فبعضهم يرى أنّ العدالة تضرب صغارَ الناس، والبعضُ الآخر أنَّ صغار الناس
لا يكسبون في غالب الأحيان قضاياهم، والثالث أنَّ القُضاة يعاملون الكبار باحتراس
وحذر، بينما تنقصهم الرقّة والتفهّم مع المستضعفين. وللأسف إنَّ هناك أحكاماً تدعم
هذه الاعتقادات. وقد جاءنا مؤخراً مثالٌ على ذلك. ففي إحدى مراكز التسويق الكبرى في
برلين، تمّ فصل أمينةُ صندوق مِن عملها على الفور بعد إحدى وثلاثين عاماً من
الخدمة؛ لأنـَّها اختلست قسائم تخفيض بقيمة 1.30 يورو. وقد ثبّتت المحكمة قرار
الفصل. إنّه حكمٌ مبالغ فيه، حُكمُ جائر".
في تراثنا العربي الكثير من الأمثال والحكم تصف هذه
المفارقة بين الصغار والكبار، ولقد سبق القرآن العظيم إلى تنبيه الرسول الكريم على
ضرورة الحذر من الكيل بمكيالين، فقال له: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا".
ثم أنَّب
الله تعالى نبيه بلطف في قصَّة البصير، التي روتها سورة عبس، فقال له جل من قائل:
"عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من
استغنى فأنت له تصدى، وما عليك ألا يزكى، وأمَّا من جاءك يسعى، وهو يخشى، فأنت عنه
تلهى. كلا إنها تذكرة"
ولهذا نجد الرسول عليه السلام يشدِّد أيما تشديد في
هذا التمييز الجائر بين الصغار والكبار عند إقامة الحدود، ويجعل هذا الفعل إيذانا
بزوال الأمم والحضارات، فيقول: ""إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم
الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد".
وفي الشعر العربي
بيت حكيم يصف هذا الانقلاب في الموازين بوصف بليغ، فيقول: قتل امرئ في الغابة في
غابة جريمة لا تغتفر***وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
وإننا اليوم لنتعجب في
عالمنا العربي عموما – وفي وطننا بالخصوص – من سرقات يتفنَّن فيها الكبار، ونقرأ
مطلع كلِّ صباح على صفحات الجرائد أرقاما خيالية تصل إلى آلاف الملايير تُختلس من
بنوكنا، وتحوَّل من شركاتنا ومؤسساتنا العمومية، ثمَّ لا نلبث ونحن ننتظر الأحكام
الصارمةَ التي ستصدر في حقِّ هؤلاء، حتى لا يُغرى مَن مِثلهم ومَن دونهم بالاتباع،
وحتى يوقف المرض المزمن عند حده... لكنَّ الذي يحدث هو أننا في الغد نقرأ خبرا آخر
أشدَّ وقعا، ونسمع عن سارق آخر أكثر احترافا وأوفر حظا.
وما لبثنا أن
استسغنا هذه الأخبار المؤسفة، وصرنا نتجرعها دون ألم، وقد قال حكيم: "ما لجرح بميت
إيلام"، ففعلتْ فينا هذه المآسي فعلَ المخدِّر، تجرَّعناه جرعا متصاعدة موزَّعة على
خطِّ الزمن، فلم تُحينا ولم تُمتنا، بل تركتنا بين بين... لا خير يرجى منا، ولا
كرامة تصدر عنا.
فإذا كان صاحب المقالِ يستنكر فصلَ الموظفة التي سرقت بضعة
دراهم، فإنا نستنكر عدم الفصل في أناس أفقروا بلداننا، واحترفوا الرشوة في
أواطاننا، وتفننوا في الابتزاز على أراضينا... أناس لا يخافون عند فعلتهم لومة
لائم، إذ ليس بين حناياهم ضمير يردعهم، ولا قلب يؤنبهم، ولا عقل
يزجرهم...
والهمُّ همَّان عندما تصير السرقات الكبرى متفشية معلنة، ثم تنزل
إلى من دونهم فيبرِّرون سرقاتهم الصغرى، تحت عنوان: "لكل حقه من هذا الوطن، فأنا
آخذ حقي منه، وإن لم أفعله خفية فلن يمنحه أحد إليَّ علانية"...
ففي الشروق
اليومي – وهو نموذج من بين الآلاف من النماذج – نقرأ بتاريخ الأحد 26 أفريل 2009
بعنوان عريض: "موظفون بالبنوك والإدارات يخونون الأمانة ويتورطون في الإختلاس
والتزوير"، يحمل إلينا هذا الخير وزرا آخر من أوزارنا، وينشر أمامنا إثما آخر من
آثامنا، فيقول صاحب المقال: "سجَّل تقرير أمنيٌّ حول قضايا خيانة الأمانة، أنَّ
أغلب المتورطين في هذا النوع من الجرائم يمارسون أعمالا حرَّة، وتتجاوز أعمارهم 41
عاما، إضافة إلى تورط العنصر النسوي منهم تاجرات ألبسة مستوردة وصاحبات صالونات
للحلاقة والتجميل ووكالات عقارية وموظفين عموميين منهم قابضون بوكالات البريد،
قاموا باختلاس أموال من منح المتقاعدين والمغتربين... "...
فإذا كان هذا
التقرير يشير إلى بعض المحاكمات، للممارسين المباشرين لمثل هذه الجرائم، فإنَّ
الحياة علَّمتنا أن نسأل عمن يقف وراءهم من كبارٍ، هم خفافيش الظلام، لا تقع عليهم
العيون لرمدها، ولا تصل إليهم العصي لقصرها...
وهنا ثانية تعود جدلية الصغار
والكبار...
وإنا لنبحث اليوم عن العلماء، وعن العقلاء، وعن المعلمين، وعن
القضاةُ، وعن السياسيين... عن كلِّ من يساهم في إيقاف النزيف، بكلمة أو أمر أو نهي
أو حكم... وإذا لم نجد وجب علينا أن نصليَّ على واقعنا أربعا، ونعلن الحداد على
مصيرنا أبدا...
إذا لم يزجرنا الدين، وإذا لم تنهَنا الوطنية... فمن ذا الذي
ينهانا؟
د. محمد موسى باباعمي