د. أحمد خيري العمري
ما فتئ دعاة التغريب، بمختلف أطيافهم واتجاهاتهم، لا يتركون فرصة تفوتهم دون أن يذكرونا بأن الحل الوحيد للخروج من تخلفنا وسباتنا هو المضي خلف الغرب خطوة خطوة.. حذو القذة بالقذة..
الدعوة ليست جديدة، ومنذ أكثر من قرن وهي تمر بمراحل وأطوار مختلفة، مدفوعة أولا بواقع متخلف لا جدال في انحطاطه، وثانياً بوجود تجربة غربية لا جدال في نجاحها.. أي مقارنة بين الواقع المتخلف والتجربة الغربية (المتقدمة) كانت حتما لصالح الدعوة إلى التغريب..
بعض هذه الدعاوى كانت يسارية – ماركسية، بعضها كانت ليبرالية إلى الحد الأقصى، وبعضها كانت أقل تطرفا، وهناك اليوم "أجنحة تغريبية" واضحة حتى داخل الإسلاميين، تدعو إلى أسلمة التجربة الغربية بشكل صريح، والأسلمة أحيانا لا تكون أكثر من تحفظ هنا أو هناك على بعض المظاهر الغربية دون الانتباه إلى جذور هذه المظاهر وأصولها..
والحقيقة أن نجاح التجربة الغربية يسهم في دخول مقاييس نجاحها كجزء من منظومة التفكير والحكم ولو على نحو غير واع، أي تصبح جزءا من طريقة الحكم على الأشياء ومن "رؤية العالم" بطريقة تجعل من محاولة التوفيق ( ولو كان تلفيقا ) بين الإسلام والغرب مجرد تحصيل حاصل.. مجرد محاولة لجعل "التغريب" أيسر.. لا يعني هذا قط اتهام هؤلاء بالعمالة كما جرى الفهم السطحي لأي انتقاد، بل يعني أنهم ببساطة لا يرون حلا آخر لمشاكل أمتنا غير استيراد المناهج الغربية ووضع شعارات إسلامية عليها هنا أو هناك.. دون أن ننكر أنهم يتحفظون على مظاهر الانحلال الموجودة في هذه التجربة..
أمران يتعرضان كثيرا للتركيز في إطار الدعوة للتغريب، ضمن أشياء أخرى، مناهج التعليم، والديمقراطية، وغالبا ما يتم طرح التغيير في مناهج التعليم، والديمقراطية، باعتبارها جزءا من الحل لمشاكل التنمية المستعصية في بلداننا ( الديمقراطية هي الحل، إصلاح مناهج التعليم هو الحل.. الخ).. ومما لا شك فيه أن مناهج التعليم في معظم بلداننا تعاني من مشاكل خطيرة، كما أن النظم السياسية ليست في وضع أفضل، لكن الإصلاح المؤدي للتنمية لا يمر بالضرورة بالوصفة الغربية وبقواعدها المقدسة.. رغم سهولة الانزلاق إلى ذلك باعتبار أن التجربة الغربية هي الأكثر وضوحا وهيمنة..
لكن التجربة الصينية تقدم نموذجا شديد الاختلاف والنجاح في الوقت نفسه: الصين أصبحت في ظرف عقود قليلة واحدة من أكبر القوى الاقتصادية في العالم، منتقلة من اقتصاد زراعي متخلف ومثقلة بمشاكل ورثتها من تطبيق صارم للثورة الثقافية في عهد ماوتسي تونغ.. دخلت الصين اقتصاد السوق لكنها دخلته بمعاييرها هي، ولم تتخلَّ عن سياسة سيطرة الحكومة المطلقة على السوق الداخلي ومختلف آليات الإنتاج ..
كل ما في التجربة الصينية، لو قرأناه بعيون التجربة الغربية ووصفة التنمية التي تم تعميمها علينا، يؤدي إلى أن الصين ستكون منافسا لنا في الفشل والتخلف، لكن الصين، بدلا من ذلك، زاحمت كبرى الدول في أرقام نموها، وبدت كما لو أنها عاملا أساسيا في إنقاذ العالم من هاوية الإفلاس التي سقط فيها عقب الأزمة الاقتصادية الأخيرة، وما تقدم شركة صينية لشراء مصانع سيارة الهمر Hummer من شركة جنرال موتورز (ضمن خطة الإنقاذ من الإفلاس) إلا صفقة ذات دلالة مغزوية كبيرة، حيث تقوم الصين بشراء رمز أمريكي مثل الهمر وجنرال موتورز.
الصين، على سبيل المثال، ليست ديمقراطية، بل تعاني من حكم الحزب الواحد منذ أكثر من سبعين عاما، وأحوال الحرية فيها ليست أفضل منها في بلداننا، ومجزرة تيانمين عام 1989 التي سحقت فيها الدبابات مئات الطلاب وكذلك مجزرة الأيغور مؤخرا ليستا سوى أدلة إعلامية كبيرة على طبيعة الحكم في الصين، وهي طبيعة قمعية نعرفها جيدا في بلادنا وتآلفت معها شعوبنا حتى صارت جزءا من ذاكرة جمعية..
الإعلام في الصين في أغلبه حكومي يسبح بحمد الحزب والقائد، وحتى الإعلام الخاص خاضع لرقابة حكومية صارمة تحرم الدخول مطلقا في بعض الموضوعات ( من ضمنها شرعية الحزب الشيوعي ).. ومنظمة "مراسلون بلا حدود" تصنف جمهورية الصين الشعبية ضمن أسوأ الدول فيما يتعلق بحرية الصحافة (تسلسلها 167 من أصل 172، وكل الدول العربية أفضل منها حسب هذا التسلسل، وإن كانت بعض هذه الدول قريبة جدا منها!!).. حتى الانترنت خاضع لرقابة شديدة، وعندما تضع كلمة "تيانانمن " في محرك البحث في الانترنت في الصين، فإن أجهزة الرقابة الحكومية تأخذك إلى صور لزهور ومناظر طبيعية ساحرة بدلا من صور أشلاء الضحايا المدهوسين بالدبابات. ( يذكرني هذا بحقيقة أن برامج اختراق الحجبPROXY التي يستخدمها الكثيرون في بلداننا لاختراق الحجب الحكومي المفروض على بعض المواقع، هي برامج صينية صممها شبان صينيون لاختراق المنع الذي تفرضه حكومتهم، ونستوردها نحن طبعا كما كل شيء، لكن بفارق أن الشباب هناك يضطرون لتحديث البرامج دوما لأن حكوماتهم تحدّث المنع باستمرار، أما عندنا فيمكن استخدام نسخ قديمة لأن حكوماتنا غير متابعة جدا لحسن الحظ!)
إذن لا ديمقراطية ولا حرية في الصين، وحسب مسطرة المفاهيم الغربية كان يجب أن يكون ذلك كله مقدمة لاقتصاد سيئ ونمو متدهور، فالازدهار والتقدم والرفاهية كلها أمور مترادفة (إعلاميا وحسب نفس المسطرة) مع الديمقراطية والحرية بمفهومها الغربي حصرا..
لكن هذه المعادلة لا تعمل في الصين على ما يبدو، بل إن نتائجها تشير إلى نتائج ليست مختلفة فحسب بل ومضادة، وهو الأمر الذي لا مفر من مقارنته مع إخفاق آخر لنفس المعادلة يتم دوما تجاهله أثناء الترويج لشعار "الديمقراطية هي الحل".. فالهند توصف بكونها "أكبر ديمقراطية في العالم"، والانتخابات الديمقراطية تجري فيها منذ أكثر من خمسين عاما وبمقاييس "بريطانية"، ومعدل حرية الصحافة فيها يتفوق على مثيله في الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم ذلك فالديمقراطية العريقة لم تجلب الرفاهية لشعب هو الأول في عدد الفقراء بالمطلق والثالث في عدد الفقراء نسبيا ( أي بالمقارنة بنسبتهم من عدد السكان الأصليين)، ولا يزال 70% من سكانه يعيشون اقتصاداً زراعياً لم يتغير إلا قليلا منذ عشرات العقود، كما أن معدل الفرق بين الأثرياء والفقراء فيها من أعلى المعدلات عالميا..
من ناحية أخرى، فإن نظام التعليم في الصين يكاد يكون نموذجا لكل ما يجب أن ينتج التخلف والسلبية حسب نفس المسطرة الغربية للمفاهيم، التعليم في الصين لا يزال قائما على الحفظ والاستظهار وإرهاق الطالب بالفروض والواجبات المنزلية (معدلات انتحار الطلاب في الصين هي الأعلى عالميا) والمواد الدراسية تكون غالبا خالية من التحفيز على التساؤل والنقاش، وبالتالي لا تؤدي إلى الإبداع..(أو هكذا نتصور..)
بالإضافة إلى ذلك، فان القيم التعليمية في الصين لا تزال قائمة على الطاعة والمبالغة في مظاهر الاحترام مثلما هو الأمر في الموروث الصيني التقليدي، كما شهدت برامج الدراسة الحكومية في الصين في العقود الأخيرة عودة قوية لمبادئ كونفوشيوس (حكيم الصين الأشهر والمؤسس للديانة الكونفوشيوسية الأكثر انتشارا في الصين ) بعدما كانت هذه المبادئ مبعدة أثناء الثورة الثقافية (1966-1976) باعتبار كونفوشيوس ممثلا للنظام الاقطاعي! اليوم تلاقي نفس المبادئ القبول والدعم حتى من الحزب الشيوعي الحاكم (الذي لا يزال يرفض الدين عموما ويتحايل على الأمر باعتبار الكونفوشيوسية فلسفة أكثر منها ديناً ).. بل إن المدارس الخاصة في الصين التي سمح بها مؤخرا صارت تستخدم القيم الكونفوشوسية كوسيلة لجذب الزبائن، فكلما كان التركيز على هذه القيم أكثر في البرامج الدراسية زاد إقبال أولياء الأمور على تسجيل أبنائهم فيها ( هل يذكركم هذا بشيء معاكس يحدث عندنا ؟؟؟)..
القيم الصينية – التقليدية التي يركز عليها في هذه البرامج تركز على القيم الجماعية حيث الكل والمجتمع مقدم على الفرد في الفلسفة الصينية (قارن مع القيم الغربية التي تركز على الفرد والفردية ) القيم الصينية تركز على الانسجام والتناسق بين مختلف العناصر والأشياء المتضادة ونبذ الجدل والمناظرة ( قارن مع القيم الغربية التي تركز على مفهوم التنافس والبقاء للأصلح واستخدام الجدل عريق جدا وله جذوره الإغريقية الراسخة في الحضارة الغربية ككل)..
بالتأكيد هذا المقال ليس محاولة للترويج لنموذج صيني في التنمية مقابل النموذج الغربي الأكثر انتشارا، بل هو مجرد تذكير بحقائق تبدو منسية في غمرة سيطرة الإعلام (الغربي عموما) على عقول وطرق تفكير الكثيرين..
وبالتأكيد أيضا، سبب نجاح التجربة الصينية لا علاقة له بحكم الحزب الواحد أو بالقمع والاستبداد ولا باعتماد الدراسة على الحفظ والاستظهار ( وإلا لكنا – في الحالتين- الشعوب الأكثر نموا وبلا منافس !)..
درس الصين العظيم هو في إمكانية النمو والانتهاج والفاعلية باستخدام الموروث الحضاري كمنصة انطلاق لهذا النمو والنهوض..درس الصين العظيم يتلخص في ان تجد كل امة شرارة إلهامها و انطلاقتها من عمق موروثها نفسه دون ان تتحكم بها (عقيدة نقص) تجاه التجارب السابقة ودون أن تحاول محاكاة هذه التجارب باعتبار (أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان).. في النهاية: مناهج التعليم وأنظمة الحكم هي محض وسائل وليست أهدافا بحد ذاتها، وإذا ضاع الهدف عن أمة ما، فلا وسيلة حقا - مهما كانت متقنة - يمكنها أن تقود هذه الأمة الي نهضتها..
هل هناك من يعتقد حقا أن الموروث الصيني يضم عناصر للنهضة والانطلاق أكثر مما يضمه كتاب الله وسنة رسوله ؟ هل هناك من يعتقد حقا أن بإمكان الصينيين أن يبنوا نهضتهم دون المرور بالتغريب ولا نستطيع نحن ؟..لا أشك أن البعض سيرد حتما على هذين السؤالين بالإيجاب ( نعم يستطيعون ولا نستطيع نحن !) ولكن هذه هي بعض أعراض النقص التي لا شك أنها ستقل وتضمحل تدريجيا عندما تقدح الأمة زناد نموها ونهضتها.. عندها لن تكون الوسائل ( مناهج التعليم، أنظمة الحكم ) مستوردة بالضرورة، بل ستكون منسجمة أولا مع روح هذه الأمة وأهدافها...
سيكون الدرب صعبا ولا بد، لكن كذلك هي الدروب إلى كل ما هو جدير بالحياة..