الفصل الثاني : المدرسة الطبيعية .
- الإطار الفكري و المناخ الاقتصادي قبيل ظهور المدرسة الطبيعية .
- نشأة المدرسة و أهم روادها .
- مبادئ المدرسة الطبيعية .
- أهم الأفكار التي نادى بها الطبيعيون تحت تأثير التطور الديني
والعلمي .
الفصل الثالث : المدرسة الكلاسيكية .
-الإطار الفكري و المناخ الاقتصادي في عصر الكلاسيك .
- نشأة المدرسة الكلاسيكية و أهم روادها .
- الظروف التي ظهرت فيها المدرسة الكلاسيكية .
- مبادئ المدرسة الكلاسيكية .
- الفلسفة الاقتصادية للمدرسة الكلاسيكية .
- الانتقادات الموجهة للمدرسة الكلاسيكية .
الخاتمة
الفصل الأول :المدرسة التجارية
1- نشأة المدرسة التجارية :
قد يترائ للباحث أن تطور الفكر الاقتصادي في إطاره العام قد مر بمرحلتين متميزتين :
مرحلة الفكر الاقتصادي القديم إبان العصور القديمة و العصور الوسطى في المجتمع الأوربي و مرحلة الفكر الاقتصادي الحديث بدءا بفكر التجاريين ثم الطبيعيين و انتهاءا بالفكر الكينزي وما بعد هذا الفكر مرورا بالفكر الكلاسيكي و المدارس الفكرية التي جاءت في أعقابه ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار مدرستين التجاريين و الطبيعيين بمثابة الفكر الاقتصادي الحديث .
ولقد أطلق مؤرخو الفكر الاقتصادي اسم مدرسة التجاريين على تيار فكر ي جديد في المجال الاقتصادي شارك في تكوينه عددا كبير من المفكرين ولم يرجع ظهور هذا التيار الفكري الجديد كمذهب اقتصادي إلى إسهام المتخصصين في البحوث الاقتصادية فحسب بل شاركهم في ذلك بعض السياسيين و رجال الأعمال .(1)
إن هذه الشمولية في تكوين مذهب التجاريين على أيدي الاقتصاديين و السياسيين و رجال الأعمال قد يفسر لماذا استمر هذا المذهب سائدا و مؤثرا في توجيهه السياسة الاقتصادية في أوربا قرابة ثلاثة قرون كاملة أي من منتصف القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر و هي من أهم الفترات في التاريخ العالم و يجب أن نؤكد هنا على :
إن هناك عدد من الاقتصاديين عاشوا في عصر التجاريين و لكنهم لم ينتموا إلى هذه المدرسة مثل آدم سميت و دافيد هيوم .
إن آراء الكتاب التجاريين لم تتطور تطورا علميا لتكوين نظرية علمية معينة كما لم تستند على منهج علمي موحد بحيث نستطيع أن نقول أن أصحابها ينتمون إلى مدرسة فكرية متماسكة أو فلسفة معينة .
و يجمع مؤرخو الفكر الاقتصادي على أن مدرسة التجاريين قد تضمنت من الأفكار مالا يمكن اعتباره تحليلا اقتصاديا في المعنى المتعارف عليه في الفكر الحديث . و إنما كان مجرد محاولة لتحديد طبيعة الظواهر الاقتصادية التي تعرض لها مفكرو هذه المدرسة أما عن السياسة الاقتصادية للتجاريين عموما فقد كانت قائمة في الأساس على تعريف هؤلاء للثروة على أنها متمثلة في الذهب و الفضة و المعادن النفيسة الأخرى وان ثروة الأمة رهن بكمية النقود المعدنية و أن الارتباط وثيق بين كمية النقود ومستوى الأسعار .
2- الأسباب و الظروف التي مهدت لظهور المدرسة التجارية :
لقد كان ظهور هذه المدرسة استجابة طبيعية للحاجات العملية التي تكتشف في أعقاب تطور المجتمع الأوروبي بما كان عليه في العصور الوسطى و ذلك في ظل ملابسات تاريخية كان لها صداها الكبير و المتمثلة في :
* ازدياد أهمية التجارة الخارجية :
شهد القرن الخامس عشر تحرر للعبيد و الفلاحين من سطوة النظام الإقطاعي في أوربا فاتجه معظمهم إلى ممارسة النشاط التجاري . إلا أن التجارة الداخلية لم يكن لها من الاتساع و الأهمية بحيث توفر لهم مكانة اقتصادية كبرى و سطوة سياسية في بلادهم فكانت التجارة الخارجية التي أحدثت تغيرا جذريا في الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية حيث رفعت من أهمية النشاط الاقتصادي و ظهر التجار كطبقة اجتماعية قوية داخل بلادهم ومن الأسباب نمو التجارة الخارجية الأوروبية في ذلك الحين :
- اتصال أوربا بالشرق الإسلامي المتقدم اقتصاديا على اثر الحروب الصليبية .
- اكتشاف طرق مواصلات بحرية دولية (طريق راس الرجاء الصالح)إلى الهند والشرق الأقصى 1493 .
- اكتشاف العالم الجديد عندما أرسى كريستوف كولومبس سفنه الثلاث عند جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي 1492 وهذين الاكتشافين أديا إلى توسيع الأفاق التجارية و تنامي روح الكسب وحب المغامرة في عالم تجاري و صناعي .
*ظهور القوميات الحديثة :
نتيجة لاتحاد التجار مع الملك و اشتراكهم في القضاء على سلطة الأمراء و النبلاء تغلبت سلطة الملك و هي سلطة مركزية على سلطات الأمراء التي كانت تقوم في مراكز متعددة داخل الدولة و كانت هذه أولى خطوة لظهور الدولة الأوروبية الحديثة كجماعة تقوم على أساس قومي و تخضع لقوة مركزية واحدة .
وكانت القوة الثانية التي أدت إلى ظهور الدولة أيضا هي ظهور القوميات الأوروبية التي أدت إلى انهيار الإمبراطوريات الكبرى المختلفة من العصور الوسطى والتي كانت تظم في حدودها أكثر من دولة و إقليم ومما لاشك فيه أن ظهور الدولة الأوربية بهذا الشكل الحديث كان له اكبر الأثر في سياسة التجاريين فلقد قام هؤلاء برسم سياسة التجارة الخارجية لأول مرة على مستوى الاقتصاد القومي بما يحقق لهم اكبر قدر من الربح والثراء .
*عصر النهضة الأوروبية :
كانت حركة النهضة الفكرية في أوربا من أهم الأحداث التي أثرت في التطور السياسي و الاقتصادي الأوربي و التي صاحبت عصر التجاريين ولقد قامت الحركة بإحياء الفلسفات الإغريقية و اللاتينية القديمة و دراستها بعقل متحرر من الدين ومن فلسفات و قيود الكنيسة و أدى ذلك إلى زعزعة مركز الكنيسة و من ثم إلى انهيار بقية أعمدة النظام الإقطاعي و تقوية السلطة المركزية (الملك و الحكومة ) .
3- المبادىء الاقتصادية التجارية :
قامت فلسفة التجاريين عموما على أربع مباديء أساسية
* إن زيادة القوة الاقتصادية للدولة تعتمد على زيادة السكان و هذا نظرا لظروف معينة سكانية واقتصادية في ذلك الحين حيث كانت الدولة الأوربية تعاني من نقص في الأعداد السكانية نتيجة للحروب الدموية في العصور الوسطى ونتيجة لانتشار أمراض خطيرة مثل الطاعون الأسود كما أدت الاكتشافات الجغرافية أيضا إلى نقص عدد السكان بسبب الهجرة على نطاق واسع من أوربا إلى البلاد الجديدة و في ظل هذه الظروف لاحظ التجاريون انه من الصعب أن يزيد حجم النشاط التجاري والصناعي دون زيادة حجم السكان ومن الأسباب الأخرى القوية التي دفعت التجاريين إلى الدعوة لزيادة عدد السكان في الدولة كما الزيادة في عدد جيش و ذلك حتى يمكن الزيادة في قوة الدولة المركزية و فائدة هذا بالنسبة لهم هو القضاء و مقاومة بقايا الإقطاع من جهة و الاستحواذ على المستعمرات الغنية بالثروات في الخارج من جهة أخرى .
* ثراء الدولة وتقدمها الاقتصادي يعتمد على مقدارنا تملكه من المعادن النفيسة (الذهب و الفضة ) وهذا لاعتقادهم بان الزيادة في هذه المعادن النفيسة أي الذهب و الفضة وهي أشكال النقود في ذلك الحين يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وهذا الارتفاع يؤدي إلى زيادة النشاط الإنتاجي والاقتصادي .
* ضرورة الاهتمام بالتجارة الخارجية لان الفائض الذي يتكون منها يزيد من ثراء الدولة ويعوضها عن افتقارها إلى مناجم المعادن النفيسة ويمكن أن نرى الارتباط بين الأفكار التجارية في ناحيتين التجارة الخارجية والنقود فالفائض المتحقق في الميزان التجاري يزيد من ثروة الدولة من النقود وهذه الأخيرة هامة جدا لتقوية الدولة ولإنعاش الاقتصاد والإنتاج.
* إن التجارة والصناعة يعتبران أكثر أهمية للاقتصاد القومي من الزراعة وتقع أهمية التجارة في المكان الأول ثم تأتي الصناعة بعدها .
4- تطور الفكر التجاري وأساليب التطبيق في مجال السياسة التجارية :
إن وراء سياسة التقييد الشديد للتجارة الخارجية التي شاعت واستقرت في عصر الرأسمالية التجارية كان تحقيق المصلحة الاقتصادية القومية وهو تكوين الفائض من المعادن النفيسة وحيث لا يمكن تحقيق هذا الهدف بشكل تلقائي فإنه أصبح من الضروري تدخل الدولة وبعبارة أخرى أن السياسة التجارية استلزمت تدخل الدولة لمحاربة الواردات أو تقييدها من جهة والعمل على إنعاش تجارة الصادرات وتحقيق أكبر مكسب ممكن منها من جهة أخرى ويمكن تلخيص سياسة الاستيراد التجارية عموما في مبدأ هام ألا وهو محاربة السلع والخدمات الأجنبية لأنها تتسبب في تسرب المعدن النفيس خارج الدولة وقد سنت الدولة بالفعل قوانين صارمة وفرضت الرقابة المباشرة عن طريق صراف الملك وجنوده . وقد فرضت أسبانيا عقوبة الإعدام على كل من يصدر الذهب إلى الخارج كما سنت القوانين لمنح مكافآت سخية لكل من يخبر عن عمليات التهريب غير المشروعة وحرمت على الأجانب المقيمين شراء الذهب .
أما الأسلوب الذي اتبع لتنفيذ سياسة الاستيراد فقد تمثل في الضرائب الجمركية المغالية في الارتفاع أو عن طريق قوانين الملاحة البحرية ومراقبة الموانئ .
أما بالنسبة لسياسة التصدير فنجد أنها تبلورت في تشجيع الصادرات من السلع المصنوعة بكافة الوسائل الممكنة لدى الدول والعمل دائما على اكتساب أسواق خارجية جديدة وعلى الأخص في البلدان المكتشفة حديثا والغنية بالمعادن النفيسة .
5- تقييم المدرسة التجارية :
لقد اتجه التجاريون إلى الأخذ بنظام تكون فيه الدولة على جانب كبير من القوة و ترجع أهمية القوة أن الدولة كانت لا تزال في نشأتها الأولى في أعقاب العصور الوسطى ومن ثم كانت في حاجة إلى القوة التي تستخدمها في القضاء على الإقطاع و سيطرة الكنيسة أما عن طبيعة هذه القوة فقد كانت تتمثل عند التجاريين في تركيم الثروة المعدنية من الذهب والفضة سواء باستخراجهما من المناجم في مستعمرات العالم الجديد ( السياسة المعدنية في أسبانيا ) أو من خلال التعامل التجاري مع الدول الأخرى ورغم هذا الموقف من جانب التجاريين في صدد التأكيد على شخصية الدولة فانه لم يصل بهم إلى حد إفناء شخصية الفرد في الدولة إذ كانوا يعترفون بالملكية الفردية و يجعلونه أساسا للنشاط الاقتصادي وكل ما هنالك أن التجاريون جعلوا للدولة حق التدخل بالتنظيم تحقيقا لهدف معين و هو أن الاقتصاد للقوة و لقد جعل ذلك بعض المؤرخين يقولون بان مذهب التجاريين هو مذهب ذو طابع فردي و دولي في آن واحد ، فردي لأنه يركز على شخصية الفرد و مصلحته الذاتية التي تتمثل في الاعتراف بالملكية الخاصة ودولي لأنه يحقق في ذات الوقت المصلحة العليا للدولة في إحراز القوة من خلال تحقيق الفائض في ميزانها التجاري و بالتالي تركيم ثروة قومية من المعدن النفيس ولو كان ذلك على حساب المصالح الاقتصادية للدول الأخرى و فضلا عن تقرير التجاريين لمبدأ الاقتصاد للقوة كهدف أساسي للنشاط الاقتصادي يجيز للدولة حق التدخل بالتنظيم تحقيقا لهذا الهدف بما لا يتعارض مع حق الملكية الفردية فان التجاريين قد جعلوا من (الاقتصاد في خدمة السياسة ) شعار آخر لهم مع تخليص الأبحاث الاقتصادية نهائيا من الطابع الديني و الأخلاقي الذي كان سمتها في فترة العصور الوسطى و يشير بعض المؤرخين للفكر الاقتصادي إلى أن التجاريين لم يصلوا بأبحاثهم الاقتصادية إلى إرساء علم الاقتصاد كعلم له استقلاليته عن العلوم الاجتماعية الأخرى و ذلك لسببين احدهما أن التجاريين ربطوا الاقتصاد بالسياسة و الآخر أنهم جعلوا من القوة هدفا للاقتصاد بخلاف ما ينطوي عليه الفكر الاقتصادي الحديث من أن هدف الاقتصاد هو تحقيق الرفاهية.
6- إحياء فكر التجاريين في العصر الحديث :
إن فكر التجاريين لم يدخل حيز النسيان بعد أداء هذه المدرسة لدورها التاريخي إذ أن هذا الفكر قد عاد إلى الظهور ثانية في أكثر من موقع في العصر الحديث ففي احد المواقع نجد تمجيد الفكر التجاريين على أيدي جون مانيار عندما أوضح في كتابه (النظرية العامة ) كيف أن سياسة النقود السخية لم تكن ساذجة كما تصورها البعض ذلك أن الزيادة في كمية النقود داخل الدولة مدعاة إلى انخفاض سعر الفائدة فيؤدي ذلك إلى زيادة حجم الاستثمار الأمر الذي يؤدي إلى الارتفاع بمستوى الدخل والتوظف وتخفيض حجم البطالة تبعا لذلك وفي موقع آخر في فترة ما بين الحربين نجد آن سياسة التجاريين بدأت تطفو على السطح من جديد في العالم المعاصر عندما لاح شح الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم منذ مطلع عام 1929 ليمر بفترة صعبة هي الفترة المعروفة < بالكساد العظيم> . لقد أخذت دول العالم تتعامل مع معطيات تلك الفترة بالأخذ بأسلوب خفض القيم الخارجية ( أسعار الصرف) لعملاتها وذلك بغية تحقيق الفوائض في موازينها التجارية عن طريق زيادة الصادرات وتقييد الواردات وكان النهج الذي اتبعته دول العالم لمعالجة أزمتها الاقتصادية في أعقاب فترة الكساد العظيم عن طريق تكوين فائض في الموازين التجارية هو بعينه النهج الذي كان قد نادى به التجاريون من قبل من اجل تركيم الثروة المعدنية فضلا عن ذلك فان أساليب الرقابة على الصرف التي تطبقها الدول في العصر الحديث هي بعينها تلك الأساليب التي كانت أسبانيا وغيرها من الدول تطبقها من قبل في عصر التجاريين وفقا لسياستهم الاقتصادية .
7- أهم الأفكار التي نادى بها التجاريون :
1 ) حرية التجارة الداخلية
2 ) تنظيم التجارة الخارجية
3 ) تدخل الدولة لتنظيم الحياة الاقتصادية .
الفصل الثاني :المدرسة الطبيعية :
1- الإطار الفكري والمناخ الاقتصادي قبيل ظهور مدرسة الطبيعيين :
من الناحية الفكرية انتشرت فكرة القانون الطبيعي التي كانت تستمد أصولها عند أرسطو ثم انتقلت إلى كتاب القانون الروماني ثم إلى المدرسين في العصور الوسطى. ولقد كانت هذه الفكرة مطبقة قبل عصر الطبيعيين على العلوم الاجتماعية وعلم الاقتصاد بالذات فلم تكن فكرة تطبيق القانون الطبيعي عليها قد انتشرت بعد وجاء ذلك على أيدي الطبيعيين وقد نقل الطبيعيون عدة اتجاهات فلسفية إلى دراساتهم الاقتصادية .
أما من الناحية الاقتصادية فان مبادئ التجاريين وتطبيقها طيلة ثلاث قرون قد خلق آثارا لها رد فعلها القوي في الفكر الاقتصادي عند الطبيعيين إذ كان تطبيق السياسة الاقتصادية للتجاريين مدعاة إلى تدهور الزراعة مما أدى إلى نتائج خطيرة كهجرة المزارعين إلى المدن و تزايد المساحات غير المزروعة كما كانت القيود العديدة التي فرضتها الدولة على النشاط الاقتصادي تحت تأثير آراء التجاريين عائقا خطيرا لنمو الإنتاج الزراعي و تصدير المنتجات الزراعية و من هنا ساد الشعور بضرورة تصحيح هذه الأوضاع فكانت آراء الطبيعيين صدى لهذا الشعور و محاولة لتجنب العيوب التي كشفت عنها سياسة التجاريين .
2- نشأة المدرسة الطبيعة و أهم روادها
ظهرت المدرسة الطبيعية في فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر و لفظة الفيزيوقراطية هي كلمة إغريقية مركبة من (فيزي phusis )التي تعني الطبيعة و كراتوس (kratos) التي تعني حكم أي حكم الطبيعة . و لقد كان الدكتور فرنسوا كيناي (1674- 1774) ابرز رواد مدرسة الطبيعيين حيث بدا حياته العامة بممارسة مهنة الطب و نشر بضعة بحوث في العلوم الطبيعية و لم يبدأ كيناي الاشتغال بالسياسة إلا عندما خطا إلى عتبة العقد السابع من عمره حيث نشر بعض البحوث حول مشكلة الحبوب ثم نشر بعد ذلك أهم مؤلف اقتصادي في عصره وهو الجدول الاقتصادي عام 1758م و قد ناصر كيناي في آرائه و أفكاره العديدة من الكتاب و المفكرين مثل الميركيزميرابو و ديون دي نيمور فالميركيز ميرابو (1715 – 1789 ) قام بنشر عدة كتب من أهمها نظرية الضريبة 1760 والفلسفة الزراعية 1763 أما ديون دي نيمور فقد كان اصغر أنصار مدرسة الطبيعيين سنا ونشر كتابا هاما عام 1761 باسم ″ الفيزيوقراطية " و هي تعني حكومة الطبيعة و الجدير بالذكر أن كتاب الفيزيوقراطية كان هو السبب في تعريف مفكري هذه المدرسة باسم الفيزيوقراطيين و إن كان أنصار هذه المدرسة يطلقون على أنفسهم اسم الاقتصاديين ولم يكن وصفهم باسم الفيزيوقراطيين ( الطبيعيين ) إلا فيما بعد ولقد كان هؤلاء الطبيعيون رغم تميزهم بأسلوبهم الخاص في عرض آرائهم و أفكارهم إلا أنهم كانوا لا يختلفون فيما بينهم حتى في أدق التفاصيل و هذا ما يجعلهم جديرين حقا بالانتماء إلى مدرسة فكرية واحدة لا نظير لها في غيرها من التيارات الفكرية و لكن ليس من شك أن كيناي هو المنبع الرئيسي لأفكار مدرسة الطبيعيين أما بقية الكتاب الاقتصاديين لهذه المدرسة فقد ساروا على منواله "(1)
3- مبادئ المدرسة الطبيعية :
- الملكية الفردية : تقوم أساسا على المنفعة الشخصية فكل شخص في تصرفاته الاقتصادية الذاتية يحث غيره على المنافسة في هذا المجال .
- الحرية الفردية : و ينطلق هذا المبدأ من تطورات مفكري التنوير المناهضة لتسلط الكنيسة من منطلق ( دعه يعمل دعه يمر ) .
- التسليم بان الزراعة هي العمل الوحيد المنتج أو النشاط الاقتصادي الذي يعطي الإنتاج الصافي .
- الطبقات الاجتماعية : و هي عبارة عن تطور الفيزيوقراطية :
أ – الطبقة المنتجة : تظم مختلف المزارعين الذين يستثمرون في إيجار الأرض من ا صحابها الملاك و هي الطبقة الوحيدة المنتجة للإنتاج الزراعي .
ب ــ طبقة الملاك : تتكون من الطبقة المالكة للأرض ورجال الكنيسة .
ج ـ الطبقة العقيمة : تتكون من التجار والصناع والحرفيين واستثمارها أساسا يتمثل في اقتناء المنتوجات الزراعية ( أي لا تحقق ناتجا صافيا ) .
4- الظروف التي ظهرت فيها المدرسة الطبيعية :
- ظهورها في فرنسا : حيث كانت الفلاحة متأخرة جدا إذا ما قورنت ببريطانيا.
ـ أنها تعبر عن تصور فلسفي جديد وظهور طبقة اجتماعية لها منطلقات فكرية ذات بعد أخلاقي وديني للكون ومن هذا النظام الطبيعي .
ـ قيام المدرسة الطبيعية على إنقاذ المدرسة التجارية التي أهملت الفلاحة وأدى إلى انخفاض أسعارها وذلك بمنع تسويق المحاصيل الزراعية .
5- أهم الأفكار التي نادي بها الطبيعيون تحت تأثير الديني و العلمي :
ذكرنا سابقا أن الطبيعيون أو الفيزيوقراط هم مجموعة من الاقتصاديين ظهرت في فرنسا أواخر القرن 17 و استمر فكرها ظاهرا في الحياة العلمية خلال القرن 18 ولقد كانوا أول من يرفض الفلسفة التجارية تماما بناءا على اقتناع فكري و كرد فعل لما حدث في فرنسا من جراء تطبيقها . الفيزيوقراط في هذا الرفض للماركنتالية يتفقون تماما مع بعض الرواد العظام الأوائل مثل وليم بيني و كانتيون وقد نجحوا في أن يستبعدوا نهائيا الاعتقاد القائل بان الثروة تتعلق بالتجارة و المعادن النفيسة. و لقد تشبعت هذه المجموعة الفرنسية بالفلسفة الطبيعة فاعتقدت أن هناك قوانين تحكم النشاط الاقتصادي و تسيره بانتظام بالغ تماما كما أن هناك قوانين طبيعية تحم المجموعة الشمسية أو الدورة الدموية في جسم الإنسان و قرروا أن الجهل بالقوانين الطبيعية التي تحكم النشاط الاقتصادي لا يمنع من تقرير المبدأ الهام وهوانه يجب ترك النظام الاقتصادي الحر حتى يمكن للقوانين الطبيعية أن تحركه حركة منتظمة وتوجهه تلقائيا إلى التوازن الطبيعي.ووفقا لهذه الفلسفة يجب أن تتخلى الدولة عن التدخل في النشاط الاقتصادي .
و يفسر الفيزيوقراطيين العيوب الملحوظة في التنظيمات الاقتصادية بالجهل بالقوانين الطبيعية و بتدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية ولقد تأثر الطبيعيون بالتقدم العلمي الذي حدث في عصرهم في فروع الفلك و الأحياء و الطبيعيات و لقد اكتشف نيوتن في ذلك الحين قوانين الجاذبية كما اكتشفت الدورة الدموية في علم الطب و أصبحت هذه الاكتشافات عاملا مهما ومؤكدا أن لكل ظاهرة طبيعية قانونها الطبيعي الذي يحكمها و يتحكم فيها ومما يذكر أن كيناي وهو ابرز الاقتصاديين في المدرسة الطبيعية كان طبيا في البلاط الفرنسي و انه في صياغته للجدول الاقتصادي قد تأثر جدا بمعلوماته الطبية عن الدورة الدموية .
و يلاحظ أيضا أن الفكر الديني في عصر الطبيعيين فد تطور كثيرا و ظهرت آراء جديدة تؤيد أن الخالق قد أعطى لكل شيء خلقه قانونه الخاص به الذي يسير به وانه لذلك يتركه يتحرك حركة ذاتية و بناءا على ذلك فان عمل الظواهر الطبيعية ليس له ما يبرره بل انه يفسر الأمور على وجه التأكيد بعبارة أخرى انه لو تركت الأشياء حرة فإنها تنتظم في حركتها على أحسن وجه دون أن يحدث أي اضطراب و أنها قادرة على أن تحقق توازنها طبيعيا .(1)
6- تقويم مدرسة الطبيعيين :
إن النظرة الفاحصة إلى ما خلفته مدرسة الطبيعيين من تراث فكري في مجال الاقتصاد تكشف عن كثير من المزايا التي تنفرد بها هذه المدرسة في صدد تطور الفكر الاقتصادي وان كانت عرضة في ذات الوقت إلى بعض أوجه النقد بما قدمته من أفكار و آراء .
مزايا مدرسة الطبيعيين :
يمكن لنا أن نعدد مزايا مدرسة الطبيعيين التي تزعمها فرنسوا كيناي و ذلك فيما يتصل بأمرين أساسيين :وضع الاقتصاد السياسي بين العلوم الاجتماعية و النتائج الهامة لآراء الطبيعيين في ميدان الفكر و ميدان الواقع .
أ ) الوضع المستقبل للاقتصاد السياسي :
لقد أسهمت مدرسة الطبيعيين في جعل الاقتصاد السياسي علما له استقلالية بين العلوم من صفة التبعية للفلسفة و الدين التي كان طابعها المميز في العصور القديمة و العصور الوسطى و كذلك من صفة التبعية للسياسة العملية التي ميزت أبحاث التجاريين في الميدان الاقتصادي .
ب ) الإنتاج ثروة الأمة :
لم يعد النظر إلى النقود المصنوعة من المعدن النفيس على أنها تشكل الثروة القومية التي تسعى الدولة إلى تر كيمها من خلال تشجيع الصادرات و تقليل الواردات كما كان الحال عند التجاريين بل كانت الثروة عن الطبيعيين تتمثل في الإنتاج الذي عرفوه بأنه العمل الذي يخلق مادة جديدة .
ج ) المناداة بالمذهب الحـــــر :
يرجع إلى الطبيعيين الفضل في تأسيس المذهب الفردي أو الحر حيث نادوا بترك النشاط الاقتصادي للأفراد حرا من أية قيود تفرضها الدولة عليه و إدارة هذا النشاط وفقا للمصالح الذاتية للأفراد وعلى أساس المنافسة الجارية بينهم و اقتصار مهمة الدولة على الأمن والعدالة والقيام بالأشغال العمومية و لقد أخذت المدرسة الكلاسيكية بهذا المذهب إبان القرن 19 وظل سائدا حتى القرن العشرين .
د ) انتهاج الأسلوب العلمي في البحث الاقتصادي :
لقد أدرك الطبيعيون أن درجة إنتاجية العمل التي جعلت تحقيق الفائض أمرا ممكنا قد ظهرت في الزراعة ولم يذهبوا إلى ابعد من ذلك غير أن هذه المحدودية في الفكر تتضمن تقدما ملموسا في تطور الفكر الاقتصادي في رأي مؤرخي هذا الفكر. ذلك لأنها كشفت على أن الطبيعيين كانوا أول مدرسة فكرية استخدمت في ترابط و تناسق منطقي أسلوب العزل و التجريد كأسلوب علمي في البحث الاقتصادي و لكن الطبيعيين لم يدركوا حينئذ أنهم اتخذوا أولى خطوات البحث العلمي الأصيل في المجال الاقتصادي .
نقد مدرسة الطبيعيين :
لا تعني كل هذه المزايا التي انفردت بها هذه المدرسة أن هذا الفكر يخلوا من نقاط الضعف التي تدعوا إلى توجيه النقد إليه إذ نتلمس أوجه نقدها كما يلي :
أ) خطأ فكر الطبيعيين حول مفهوم الإنتاج :
درجة الخطأ في فكر الطبيعيين حول مفهوم الإنتاج أنهم اعتبروا أن السمة الوحيدة للإنتاج انه ذو طابع ما دي فحسب لان العمل المنتج في رأيهم هو الذي يخلق مادة جديدة أما أي عمل لا يخلق مادة جديدة فهو غير منتج و لكن حسب الفكر الحديث فان الإنتاج هو خلق لمنفعة جديدة أو زيادة منفعة ، كما اعتبر الطبيعيون أن الزراعة هي الوحيدة القادرة على خلق مادة جديدة .
ب) خطأ فكر الطبيعيين حول الضريبة المفردة :
من الطبيعي أن خطأ الطبيعيين في مفهوم الإنتاج قد أوقعهم في خطأ المناداة بفكرة الضريبة المفردة حيث أنهم اعتبروا أن الإنتاج هو خلق لمادة جديدة وان الزراعة هي الوحيدة القادرة على خلق مادة جديدة و لهذا ينبغي إخضاع القطاع الزراعي لوحده إلى الضريبة ، لكن الواقع الاقتصادي يؤكد غير ذلك فكل من الصناعة و التجارة تحقق ناتجا صافيا يمكن إخضاعه للضريبة بالإضافة إلى إن الدول في حاجة إلى موارد مالية لتغطية النفقات العامة مما لا يمكن أن تنهض به ضريبة وحيدة هي ضريبة الزراعة ولذلك وجب تعدد مصادر الإيرادات العامة وفوق كل ذلك فانه من غير العادل أن ينفرد النشاط الزراعي لوحده بالعبء الضريبي دون سائر الأنشطة الاقتصادية الأخرى.
ج) خطأ تركيز الجهد الإنمائي على الزراعة :
أدى الاهتمام البالغ بالزراعة من طرف الطبيعيين إلى إهمال الصناعة في فرنسا في عصرهم ، إذ أنشرت دعوة العودة إلى الطبيعة و الحياة الزراعية و بطبيعة الحال فان هذا الاتجاه التنموي لم يكن هو الاتجاه السليم و بالتالي من المزايا العديدة التي كان من الممكن التمتع بها لو أن الصناعة سارت جنبا إلى جنب مع الزراعة في إطار توازني للنمو الاقتصادي (1) .
وحيث أن الزراعة لا تهتم بعنصر الغرض فقط وإنما يجب التعاون بين العمل و الأرض أي وجود طبقة المزارعين . فان الطبيعيين اعتبروا هذه الطبقة الوحيدة التي يمكن وصفها بأنها الطبقة المنتجة و أن طبقة رجال الصناعة و التجارة عقيمة و السبب في ذلك كما تقدم يرجع إلى أن المزارعين وحدهم الذين يستطيعون تحقيق منتج صافي و هذا الرأي يعتبر تحول هاما في تاريخ الفكر الاقتصادي إذ انه يمثل ثورة على آراء التجاريين الذين يعتبرون أن طبقة التجار هي الطبقة الوحيدة المنتجة إسنادا إلى أن التبادل التجاري هو النشاط المنتج الوحيد أو الأساسي في اكتساب الدخل القومي ، ولقد رد آدم سميت على آراء المدرسة الطبيعية فيما بعد وقال انه من الخطأ اعتبار أن الصناعة نشاط غير منتج و ذلك لان الصناع أو رجال الصناعة يحققون إضافة إلى المنتج القومي تماما كرجال الزراعة وانه من الخطأ اعتبار أن قيمة ما يستهلكه رجال الصناعة تساوي قيمة المنتجات الصناعية وبناء على ذلك فان كل نشاط يساهم في زيادة الرفاهية المادية يعتبر نشاطا منتجا والعكس صحيح ... ولكن هذا التحديد يعتبر تحديا تعسفيا وذلك لان النشاط الاقتصادي في الواقع يؤدي إلى زيادة السلع المادية بالإضافة إلى الخدمات مما يؤدي إلى زيادة إنتاج السلع المادية بالإضافة إلى الخدمات مما يؤدي إلى زيادة الرفاهية بصفة عامة وبالتالي فان كل نشاط يحقق إشباعا لرغبات المجتمع ويساهم في زيادة الرفاهية يعد نشاطا منتجا.(2)
د) خطأ إخضاع الاقتصاد السياسي للقوانين الطبيعية :
من الأمور المسلم بها أن الظواهر الاقتصادية تتغير وتتطور على مدار الزمن وتبعا لذلك تتغير القوانين التي تحكم هذه الظواهر فالقوانين التي تحكم الظواهر الاقتصادية في مجتمع إقطاعي غير تلك التي تحكمها في مجتمع زراعي ومن ثم إذا سلمنا بان الظواهر الاقتصادية متغيرة وبالتالي إن القوانين التي تحكم هذه الظواهر متغيرة عبر الزمن ينكشف لنا على الفور الخطأ الذي وقع فيه الطبيعيون عندما اخضعوا الاقتصاد السياسي للقوانين الطبيعية التي من بين صفاتها أنها غير قابلة للتغيير.
وما نخلص إليه في الأخير أن المدرسة الطبيعية كانت أول مدرسة حاولت دراسة النشاط الاقتصادي من زاوية كلية اجتماعية كما اتخذت من الزراعة نقطة انطلاق كل الأنشطة الاقتصادية ( استثمار الأرض ) ونادت بإلغاء الحواجز الجمركية وحرية تسويق المحاصيل الزراعية داخليا وخارجيا .