أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ
بسم الله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله، ومن اهتدى بهداه، أما بعد، فيسأل بعض الإخوة عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: من قرأ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وقرأ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ فليقل: بلى وإني على ذلك من الشاهدين .
وهذا حديث لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما صحح العلماء، وبعض أهل العلم صحح الحديث الوارد في سورة القيامة أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى سبحانك فبلى هذا حديث صححه بعض العلماء.
أما الحديث الوارد في سورة التين، فهذا حديث ضعيف لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما نص على ذلك كثير من العلماء.
وهذه السورة، سورة القلم سورة افتتح الله -جل وعلا- بصدرها الوحي على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وذلك أن الله -جل وعلا- لما أراد أن يوحي إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بعث جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتعبد في غار حراء، فلما جاءه الملك، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ … .
وهذا نفي للقراءة؛ لأن اقتران قوله: "بقارئ" بالباء يدل على أن ما نافية: قال: ما أنا بقارئ، فأخذه الملك فغطه حتى بلغ من النبي -صلى الله عليه وسلم- الجهد، ثم أرسله، فقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ فصنع به مثل ذلك ثم أرسله، فقال له: اقرأ قال: ما أنا بقارئ، فغطه المرة الثالثة حتى بلغ منه -صلى الله عليه وسلم- الجهد ثم أرسله، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ .
ولهذا ذهب جماهير العلماء إلى أن هذه السورة هي التي نبئ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي أول ما أوحي إليه -عليه الصلاة والسلام-. وأما سورة المدثر، أو أوائل المدثر، فإنه يتبع ذلك كما فصله حديث جابر في صحيح البخاري.
قوله جل وعلا: اقْرَأْ هذا أمر من الله -جل وعلا- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقرأ، وقد يقول: قائل كيف يأمر جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقراءة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أمي هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ فكيف يقال له: اقرأ؟
قال العلماء: إن المقروء إما أن يكون مقروء عن كتابة، وإما أن يكون مقروء عن تلاوة، فإذا لقَّنَه جبريل، وقرأ يسمى قارئا، وإذا قرأ من كتاب، فإنه يسمى قارئا، والمنفي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون قارئًا من كتاب أو كاتبًا في كتاب.
أما كونه -صلى الله عليه وسلم- يقرأ من تعليم جبريل له -عليه الصلاة والسلام- فإن هذا لا مانع منه، بل ذكره الله -جل وعلا- في كتابه: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى يعني: نجعلك قارئًا.
وقوله جل وعلا: بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أي: مستعينًا باسم ربك الذي خلق، وإنما جعلت الباء هاهنا للاستعانة؛ لأن الاستعانة من معاني الربوبية. والله -جل وعلا- قال: بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وهنا حذف -جل وعلا- المفعول، ما قال: خلق الناس، أو خلق الخلق، حذف المفعول؛ ليعم من سوى الله -جل وعلا- فكل من سوى الله فهو مخلوق يعني الذي خلق الخلق أجمعين.
ثم قال جل وعلا: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ لما عمم جل وعلا أنه خلق الخلق كلهم خصَّص بخلق الإنسان، وهذا التخصيص التمس العلماء حكمته فظهر لهم أنه خصص الإنسان لشرفه وكرامته، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ثم إنه خصه بالذكر هاهنا؛ لأن المنبأ، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- من جنس الإنسان، ليس من الأجناس الأخرى، ليس من الملائكة، وليس من غيرهم، وإنما هو من الإنسان، فلما كان المنبأ، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإنسان ذكر الله -جل وعلا- خلق الإنسان خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ والعلق هو الدم الجامد كما تقدم.
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ هذا أمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالقراءة تأكيدًا على الأمر الأول، وفي الأمر الأول أمَرَهُ أن يقرأ مستعينًا بالله، وفي هذا الأمر، الأمر الثاني، قال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ولفظ "الأكرم" كما تقدم لنا يدل على خير وسعة، فالله -جل وعلا- خيره كثير، واسع العطاء.
فلما قال -صلى الله عليه وسلم-: ما أنا بقارئ قال الله -جل وعلا-: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ لأن الله -جل وعلا- هو الذي يفتح على خلقه، ويوسع لهم بالخير، ومن ذلك أن يتعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- القراءة من جبريل، وأن يتعلم هذا المقروء، وهو القرآن، وهو الذي فيه خير للنبي -صلى الله عليه وسلم- وخير لأمته.
ثم قال جل وعلا: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وهذه صفة للرحمن فهو الذي علم بالقلم، يعني: علم الناس الخط بالقلم، فهو -جل وعلا- قد امتن عليهم بتعليمهم الكتابة بالقلم، كما مَنَّ جل وعلا عليهم أن علمهم النطق باللفظ، فهناك بيان النطق، وبيان الخط، أو بيان اللفظ، وبيان الرسم، وكلاهما امتن الله -جل وعلا- بهما على هذه الأمة.
فامتن جل وعلا هذه الأمةَ على الناس بالبيان الخطي أو الرسمي بهذه الآية، امتن عليهم بالبيان النطقي، في قوله جل وعلا: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ فهو جل وعلا علم الخلق النطق، وعلمهم الكتابة.
وذكر الله -جل وعلا- هاهنا القلم؛ لأن الله -جل وعلا- لو لم يعلم الخلقَ الكتابة بهذا القلم؛ لحصل عندهم خلط كثير؛ لأن الإنسان ينسى، ولكن جعل في هذا القلم ما تضبط به وصايا الناس، وتضبط به شهاداتهم، وتضبط به حساباتهم، وتضبط به كثير من أمورهم التي لولا الله -جل وعلا- خلق هذا القلم لحصل عندهم فيها خلط عظيم، وعاد عليهم ذلك بالضرر؛ لأن الإنسان لو كان القلم غير موجود، وكانت هناك شركة، وعندها حسابات، ماذا يصنع؟ لا يعتمد على الحفظ؛ لأن الحفظ خوان، ولكن الله -جل وعلا- خلق هذا القلم وفيه منافع عظيمة للعباد.
ثم قال جل وعلا: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ في الأول قال: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ وما ذكر ما هو المُعَلَّم؛ ولهذا قال بعض العلماء في الآية الأولى: حذف الله المُعَلَّم ليشمل تعليمه جل وعلا للبشر، وللملائكة ولغيرهم الذين علموا بالقلم، ثم بعد ذلك خص الله -جل وعلا- الإنسان: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ مَا لَمْ يَعْلَمْ سواء مما يتعلق في أمر معاشه، أو في أمر معاده.
وهذه الآية كما قال الله -جل وعلا-: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا فأخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئًا فعلَّمه جل وعلا، وفتح عليه من العلم ما لم يكن يدركه لولا فضل الله -جل وعلا- وتعليمه له.
ثم قال جل وعلا: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أي: إن الإنسان ليطغى، والطغيان هو مجاوزة الحد: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى يعني: إذا حصل له غنى، فإنه يطغى ويتجاوز ما حُدَّ له، وهذا في طبع الإنسان؛ ولهذا قال الله -جل وعلا-: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ .
وقال جل وعلا: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ وقال جل وعلا عن فرعون: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ يعني: موسى عليه السلام وَلَا يَكَادُ يُبِينُ .
يعني: لا يستطيع الإبانة في الكلام؛ لأن موسى كان ألثغ، كما ذكر الله -جل وعلا- نطقه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وقبل ذلك: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي فكان موسى في لسانه عقدة؛ ولهذا قال فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ يعني: ذليل وَلَا يَكَادُ يُبِينُ يعني: لا يكاد يفصح بالكلام، وهذا طغيان من فرعون.
وقارون قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي وهذا كله يدل على أن الإنسان إذا أُعطِي، وأُكثِر له العطاء طغى، ولكن يستثنى من ذلك المؤمنون؛ لأن المؤمن إذا أعطي شكر كما قال الله -جل وعلا- عن نبيه سليمان: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ .
وقال جل وعلا في شأن الإنسان المسلم صاحب الجنة: الذي يكون من أهل الجنة: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ فهذه حال المؤمن.
وأما حال الكافر فإنه يطغى، ولهذا المفسرون عندما فسروا قوله -جل وعلا-: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى قالوا: هو الإنسان الكافر، ثم قال جل وعلا: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى يعني: مهما طغى الإنسان فإن المرجع والمآب إلى الله -جل وعلا- وسيحاسبه على ذلك.
ثم قال جل وعلا: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى يعني أرأيت الإنسان الكافر إذا نهى عبدًا مسلمًا عن الصلاة، وقوله: أَرَأَيْتَ يعني: أخبرني، فهذا استفهام لا يحتاج إلى جواب؛ لأن من نهى مسلمًا عن الصلاة عذَّبه الله جل وعلا.
والمراد بهذا عند جمهور المفسرين هو أبو جهل؛ لأنه كان يتهدد النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: "لئن رأيت محمدًا يعفر وجهه بالتراب يعني: في الصلاة عند البيت لأطأن على عنقه".
ثم قال جل وعلا: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أي: أرأيت إن كان ذلك العبد، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى يعني: أخبرني إن كان هذا الذي تنهاه عن الصلاة على الهدى، يعني: طريقه هو الهدى، أو كان يأمر بالتقوى.
ثم قال جل وعلا: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى يعني: أرأيت هذا الكافر إن كذب بآيات الله وتولى وأعرض عنها أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى يعني: هذا الكافر ألا يعلم أن الله -جل وعلا- مُطلع عليه، وهو يتهدد هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه سيطأ عنقه إن سجد لله -جل وعلا- وصلى.
وكذلك الله -جل وعلا- يراه حين تولى، وحين أعرض وأدبر حين تليت عليه آيات الله -جل وعلا- وهذا كما قال الله -جل وعلا-: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ثم قال الله -جل وعلا-: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ يعني: أن هذا الكافر إن لم ينته عن تهديده وينته عن إعراضه فإن الله -جل وعلا- سيأخذه بناصيته.
والناصية هو الشعر الذي يكون في مقدمة الشعر يعني: أن هذا الكافر سَيُجَرُّ ويُجْذَب من مقدم رأسه، ويلقى في النار، كما قال الله -جل وعلا-: فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ يعني: تجمع أقدامهم إلى نواصيهم، ثم يلقون في النار، ثم قال جل وعلا: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ وصف الله -جل وعلا- هذه الناصية التي يأخذها الله -جل وعلا- ويعذبها بأنها كاذبة.
والناصية هي جزء من الإنسان، وهي مقدم رأسه، ولكن المراد الإنسان الكافر، فهذا من باب إطلاق البعض وإرادة الكل، كما قال الله -جل وعلا-: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ فالكاذبون هم الكفار، والله -جل وعلا- عبر بالناصية من باب إطلاق البعض على الكل.
ووصف الله -جل وعلا- هذه الناصية بأنها كاذبة ثم قال: كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ عندنا خطيئة وخطأ، وبينهما فرق، فالخطيئة هي الإثم، وهذه الناصية أو هذا الكافر خاطئ، يعني: أنه مذنب وآثم بعد علمه؛ لأنه تليت عليه آيات الله عز وجل ودُعِي إلى الإسلام، ورأى آيات الله -جل وعلا- ولكنه أصر واستكبر على كفره فلذلك كان خاطئًا، كما قال الله -جل وعلا- عن قوم نوح: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا .
وقال جل وعلا: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فالخطيئة المراد بها الإثم، وأما الخطأ فقد يقع بغير عمد؛ ولهذا رفع الله -جل وعلا- الخطأ وما رفع الخطيئة: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ .
فالخطأ مرفوع لا يُعَاقَب صاحبه. وأما الخطيئة فصاحبها مُعَاقَب لكن إذا أخطأ الإنسان في دين الله، فعلم خطأه، فأصر عليه صار فعله حينئذ خطيئة؛ لأن الخطأ قد ينقلب خطيئة بالإصرار عليه، ولهذا لا يكون هناك تعارض كما يتوهمه بعض الناس بين قوله جل وعلا: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وبين هذه الآية؛ لأن هذه في الآثم المتعمد، أما تلك فمن وقع منه فعل على غير عمد منه.
ثم قال جل وعلا: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ يعني: يدعو أهل مجلسه الذين كانوا يجالسونه في الدنيا؛ لأن الكفار كانت لهم نواد يجلسون فيها ويجتمعون ويصنعون فيها القمار والميسر، ويشربون فيها الخمور، هذه كانت نوادي لهم، يقول الله -جل وعلا- له يوم القيامة: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ إذا جاء يوم القيامة فليدع أصحابه هؤلاء؛ ليدفعوا عنه من عذاب الله شيئًا.
وقد أخبر الله -جل وعلا- عن الكفار يوم القيامة إذا أوقعوا في النار أنهم يقولون: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ وقال جل وعلا عنهم يوم القيامة: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ يعني: ليس له صديق يدفع عنه من عذاب الله شيئًا.
قال الله -عز وجل- سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ والزبانية جمع زابن، وهم الملائكة الغلاظ الشداد الذين أعدهم الله -جل وعلا- لتعذيب من يستحق العذاب في النار، ثم قال جل وعلا: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي: لا تطع هذا الكافر فيما يقول، ولا تلتفت إليه، ولكن اسجد لله -جل وعلا- وتقرب إلى ربك -جل وعلا- بأنواع العبادات، ومن أعظمها السجود؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد .
_________________
لا تقل يا رب عندي هم كبير...بل قل يا هم عندي رب كبير...