قال أرسطو أن الجاهل هو الذي يؤكد أنه على حق والحكيم هو الذي يبدي الشكوك والعالم هو الذي يفكر ويتأمل.
كلما تقدم العلم وتراكمت الاكتشافات العلمية تكاثرت التساؤلات التي ما تزال تبحث عن أجوبة، وصار العلماء والمتخصصون يشعرون أنهم يعودون إلى المربع الأول، حيث تبرز أمامهم ألغاز ومعضلات جديدة تستعصي على الحل. مما يرغمهم على ابتكار حلول جديدة وفرضيات ونظريات تحتاج للإثبات وتطرح تحديات جديدة على علماء الفلك والفيزياء الفلكية وعلماء الكونيات والفيزياء النظرية مثل : لماذا تمتلك الجسيمات اللامتناهية في الصغر كتلة؟ ما هي طبيعة وماهية المادة السوداء والطاقة المعتمة أو الداكنة؟ وأين اختفت المادة المضادة وماهي حقيقة الأبعاد الخفية أو غير المرئية؟ وأين توجد الحياة المغايرة للحياة البشرية التي قد تكون موجودة في تخوم الكون المرئي وهل هناك تاريخ للكون؟ و هل هناك مكونات مجهولة للكون غير المادة والطاقة المعروفتين ؟ وغير ذلك من الألغاز ؟
عندما أكتشف العلماء حقيقة توسع وتمدد الكون وتباعد المجرات اضطروا للبحث عن علة لهذه الظاهرة وتقديم فرضية جديدة تمثلت بقوة مضادة للجاذبية الكونية أو الثقالة الكونية سميت بالطاقة الداكنة أو المعتمة التي تسهم بتسريع توسع الكون . لكن هذه الفرضية أثارت مشكلة عدم التلاؤم مع القوانين الفيزيائية التقليدية المعروفة والمطبقة وعمليات الرصد الفلكية. فالقوانين السائدة تفترض تقديم حلول وإجابات لكل ظواهر الطبيعة وتم اختبار صحتها محلياً وعلى مستوى المجموعة الشمسية التي ننتمي إليها وكذلك داخل المختبرات من خلال تجارب عملية، وقد استند وصف علماء الفيزياء النظرية والفلك للكون على تلك القوانين الجوهرية وتقديم تصور علمي لخريطة الكون بالأبعاد الثلاثة. ولكن عندما تطبق تلك القوانين على المستوى الكوني الأشمل سوف يتطلب الأمر طرح فرضيات جديدة خاصة عندما يتم اللجوء إلى عمليات المراقبة والرصد الفلكي بتلسكوبات رقمية فضائية متطورة جداً ويستدعي إدخال مكون افتراضي آخر لايمكن لأي نظرية فيزيائية أن تعطي أي شرح أو تفسير مقبول له لحد الآن كما حصل مع إدخال مكون الطاقة الداكنة أو المعتمة، وبفضل هذه الإضافة شبه القسرية بات الأنموذج النظري والقياسي للكون متوافقاً مع نتائج عمليات المراقبة والرصد لأن الأنموذج القياسي السابق لم يعد ملائماً . والحال أننا بإدخالنا مكوناً جديداً متمثلاً بالطاقة الداكنة بات ملزماً علينا الخوض في فيزياء جديدة، يمكن تسميتها بفيزياء ما بعد النسبية.
من البديهي القول وفق معايير الفيزياء التقليدية بأن القوة التي تتحكم وتقود الكون هي قوة الثقالة ، وأن النظرية النسبية العامة التي تصف قوة الثقالة بدقة علمية متناهية على مستوى المجموعة الشمسية، يمكن تطبيقها على المستوى الكوني ECHELLE COSMOLOGIQUE ، واستناداً لمعادلات آينشتين الرياضية يمكننا تحديد هندسة الزمكان espace - tempsالمحيط بنا، ولكن يستحيل حل تلك المعادلات المعقدة في عموميتها التامة وبالتالي ينبغي وضع فرضيات تشابه وتناسق وتماثل symétrie تعيننا في اختيار بعض الحلول، واستخدام مبدأ مركزي كوني عرف بإسم المبدأ الكوبنيكي. يتلخص هذا المبدأ بتشخيص بصري ملحوظ من المراقبة والرصد التلسكوبي ويقول أن توزيع المجرات في الكون ليس عشوائياً وأن عددها متماثل منظوراً إليها من أي اتجاه كان. فإما أن يكون الكون متناسقاً ومنظماً بدقة شديدة isotrope حول نقطة واحدة ومحددة، أي سيكون له مركز، أو هو كذلك ولكن حول كل نقطة زمكانية موجودة فيه. وقد انحاز العلماء للصيغة الثانية التي تعني أو تفترض أننا لانشغل موقعاً متميزاً ومركزياً في الكون وهذا الخيار هو الذي نسميه اليوم بالمبدأ الكوبرنيكي principe copernicien وينطوي عليه أن المادة موزعة بشكل متماثل ومتساوي ومنتظم ومنسق على صعيد الكون المرئي برمته من الناحية الإحصائية أو التعدادية.
إن معادلات آينشتين تعمل على وصف الهندسة géométrie الزمكانية لزمننا وفضاءنا الذي نعرفه ونعيش فيه، وهي التي تتيح لنا الوصول إلى قانون توسع وتمدد الكون، ولحل جميع المعادلات الآينشتينية يتعين علينا إدخال فرضية ثالثة بشأن المادة المكونة للكون نفترض أنها مكونة من خليط من السوائل والغازات المتنوعة يتميز كل منها بطابع العلاقة بين ضغط وكثافة طاقتها. وإذا كانت النظرية النسبية العامة توضح على نحو فعلي الثقالة على الصعد الكونية العامة échelles cosmologiques فإنها قاصرة على تفسير عدم تسارع التوسع الكوني إلا بشرط واحد وهو: يجب أن تكون المادة التي تتحكم بديناميكية الكون اليوم من النوع الذي يكون فيه مجموع كثافتها الطاقوية وثلاثة أضعاف ضغطها سلبياً، والحال أننا لانعرف أية مادة تتصف بهذه الصفات ولديها هذه الميزات والخصائص. وهكذا، إذا كانت كافة فرضياتنا ونظرياتنا ـ بما فيها نظرية الثقالة والمبدأ الكوبرنيكي ـ صالحة وصحيحة عند ذلك يتوجب علينا إدخال مكون مادي جديد في تركيبة الكون أعطي تسمية الطاقة الداكنة أو المعتمة والمادة السوداء لشرح وتفسير التوسع الكوني والتسارع المطرد في عملية التوسع أو التمدد . وتجدر الإشارة إلى أن مراقبة ورصد أعماق الكون باستخدام تقنية الانزياح الطيفي décalage spectral أتاح لنا تقدير عمر الكون ومحاولة الوصول إلى اللحظات الأولى لولادته مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الانزياح الطيفي لأي جسم بعيد يتغير مع الزمن وأن هذا الانحراف الزمني مرتبط بمعدل التوسع الكوني، وسنتمكن خلال العقدين القادمين من القياس الدقيق لهذا الفرق الزمني بفضل التلسكوب الفضائي العملاق الذي يبلغ قطر عدسته 80 متر وهو Extremely Large Telescope على أن تستغرق عملية الرصد والمراقبة عدة عقود.
تطورت النظرية الكونية كثيراً خلال القرن العشرين واتخذت تسميات وعناوين مختلفة لكنها لم تجب على كافة التساؤلات التي تتحدى الفيزيائيين وتطلب الأمر اليوم إدخال ثابت كوني جديد constante cosmologique أعتقد بعض العلماء أنه يمكن أن يكون الطاقة الداكنة أو المعتمة وهو ليس أكثر من رقم أو رمز يضاف للمعادلات. وهو يمثل مكون مادي ينطوي على ضغط وتأثير يسمح بتفسير التسارع ويشكل النموذج الفيزيائي الأبسط للطاقة الداكنة التي لانعرف عنها شيئاً في الوقت الحاضر والمشكلة لاتكمن في الثابت الكوني المضاف للمعادلات بل في تفسيره وتأويله، وحسب بعض التفسيرات السائدة فهو ليس أكثر من تجلي للتفاوتات والتموجات الكوانتية أو الكمية للفراغ fluctuations quantiques du vide. وهناك من أدخل نماذج نظرية أو افتراضية أخرى من الطاقة الداكنة أو المعتمة مثل الـ quintessence بيد أن من شأن ذلك أن يزيد من تعقيد خصائص النموذج الكوني النظري. وإذا لم نعثر على تفسير مقبول ومثبت للثابت الكوني الجديد سيتوجب علينا أن نلجأ إلى نموذج الأكوان المتعددة أو المتوازية أو المتداخلة، حيث تتغير قيمة الثابت الكوني من كون لآخر وهذه فرضية مغرية لأنها تعني أن هناك فقط بعض الأكوان مرئية وقابلة للرؤية والرصد والقياس وبالذات تلك التي تحتوي على ثابت كوني ضعيف بما فيه الكفاية لتكوين مجرات واحتواء مراقبين واعين مثلنا نحن البشر ولكن من المبكر جداً قبول مثل هذه الرؤية التي يصعب اختبارها الآن بما لدينا من إمكانات تقنية وتكنولوجية متواضعة، وقد حاولت نظرية الحبال أو الأوتار الخوض في هذه الفرضية البالغة التعقيد والصعوبة.
فنظرية الأوتار الفائقة تتسم بجمالية فائقة وتناسق رفيع حيث تستعير المفردات الموسيقية لجمالها وتناسقها واستخدامها بطريقة مجازية لتأخذ منحى مدهشاً واقعياً باقتراحها المشهد المجهري المضمور بأوتار دقيقة تتحكم باهتزازاتها في تطور الكون. وعلى الرغم من قوة المنطق فيها إلا أن النموذج القياسي لايمكن أن يكون كاملاً أو يشكل نظرية نهائية متكاملة وتامة وشاملة لأنه لا يتضمن الجاذبية كما هو حال النظرية النسبية أو نظرية الكوانتا أو الكم، وفوق ذلك فان محاولات تضمين الجاذبية داخل إطار ميكانيكا الكم قد فشلت بسبب التأرجحات العنيفة في النسيج الفضائي المكاني والتي تظهر في المسافات فوق المجهرية، أي عند أطوال اقصر من طول أو حاجز بلانك، وقد أجبر هذا التعارض العلماء على البحث في اتجاه أعمق لفهم الطبيعة وقدم مايكل غرين وكوين ماري أول بحث مقنع حول نظرية الأوتار الفائقة يسهل عملية فهمها، إذ تقدم نظرية الأوتار تعديلاً مدوياً وجديداً للوصف النظري للخواص فوق المجهرية للكون وهو التعديل الذي تحقق من قبل الفيزيائيين ببطء.. وعدل من النسبية العامة لانشتاين بالشكل الذي جعلها تتفق وميكانيكا الكم . ووفقاً لنظرية الأوتار فأن العناصر الأساسية للكون ليست جسيمات نقطية، بل هي فتائل دقيقة أحادية البعد تشبه الحلقة المطاطية المتناهية الصغر في سمكها والتي تهتز جيئة وذهاباً وتقترح النظرية عناصر فوق المجهرية تتكون فيها الجسيمات الأولية التي تتكون منها الذرات.
أفضل مافي النظرية قدرتها على التخفيف من العداوة بين قوى الجاذبية أو الثقالة وميكانيكا الكم، فمشكلة مزج النسبية العامة وميكانيكا الكم قد ظهرت لان العقيدة المحورية في النسبية العامة هي كون الزمان والمكان يشكلان بنية هندسية ناعمة التحدب في مواجهة السمات الأساسية لميكانيكا الكم في أن كل شيء في الكون بما في ذلك نسيج الزمان والمكان يعاني من التأرجحات الكمية fluctuations quantiques التي تزداد كلما اختبرناها على مستويات اصغر فأصغر في المسافات.
ففي المسافات الأقل من مقياس بلانك تصبح التموجات الكمية من الضعف لدرجة إنها تحطم مفهوم المكان الهندسي ناعم التحدب الأمر الذي يعني سقوط النسبية العامة أو بطلان صحتها.
إذا كانت النسبية العامة تقول بعالم ذي أربعة أبعاد ـ الطول والعرض والارتفاع والزمن ـ، فأن ما تثيره نظرية الأوتار من تساؤلات يزيد من تعقيد مهمة التشخيص. إذ أن الأمر يتطلب نسبة أبعاد متعددة لتجنب القيم الاحتمالية غير المقبولة في قدرتها الأولى وفي الثورة الثانية للنظرية ظهرت عشرة أبعاد فضائية وبعداً زمنياً واحداًَ لتصبح (أحد عشر) بعداً والتساؤل الآخر إذا كان للكون تسعة أبعاد فضائية وبعداً زمنياً واحداً، فلماذا لايسعنا تصور كون بثلاثة أبعاد فضائية وبعداً زمنياً واحداً كبيراً وإلى جانبه تمتد الأبعاد الأخرى المتناهية في الصغر والمتجعدة؟ ولماذا لا تكون ممتدة أو تأخذ أي احتمال آخر؟ فمثلاً من منظور كوسمولوجي (كوني) يمكن تصور الأبعاد بداية جميعها متجعدة بشدة. ثم في لحظة الانفجار العظيم البيغ بانغ انفردت ثلاثة أبعاد منها وبعد زمني واحد حتى وصلت إلى مداها الحالي بينما بقيت الأبعاد الأخرى صغيرة كما هي.. وهناك تساؤل ثالث بافتراض ضرورة وجود العديد من الأبعاد الإضافية، فهل من الممكن أن يكون بعضها أبعاداًَ زمانية؟ وإذا فكرنا في تلك للحظة سنجد انه احتمالاً شاذاً في الواقع، ولدينا جميعاً إدراك غريزي بما معناه أن يكون للعالم أبعاد فضائية متعددة كونناً نعيش في عالم تتعامل فيه مع ثلاثة منها فقط. ولكن مالذي يعنيه تعدد الأزمنة؟ هل يمكن أن يتواءم في الزمن الذي تعرفه حاليا أو يختلف؟ والأكثر غرابة إذا فكرنا بزمن متجعد؟.
فالأوتار تخدش النسيج الزمكاني الآينشتيني التقليدي. فنظرية الأوتار تقدم وصفا كوانتياً أوكميا للجاذبية يعدل بالضرورة من النسبية العامة، عندما تتضاءل المسافات المعينة لتصل إلى طول بلانك، وحيث أن هندسة العالم الفيزيائي ريمان هي لب النسبية العامة فإنها لا بد أن تتمحور لتتلاءم والفيزياء الجديدة للمسافات القصيرة في نظرية الأوتار، إذ تؤكد النسبية العامة أن هندسة ريمان تصف الخواص المحدبة للكون بينما تؤكد نظرية الأوتار أن هذا صحيح فقط إذا اختبرنا نسيج الكون على مسافات أطول بما فيه الكفاية وعلى مسافات قصيرة مثل طول بلانك. وهذا يحتم ظهور نوع جديد من الهندسة يتواءم مع الفيزياء الجديدة لنظرية الأوتار ويسمى هذا الإطار الهندسي الجديد باسم الهندسة الكوانتية أو الكمية géométrie quantique وبرغم إن الجهود ما زالت تبذل في هذا الجانب لتطويع أجزاء من فروع الفيزياء والرياضيات في خدمة الهندسة الكمية فالقصة الكاملة لم تكتب بعد، إلا أن الدراسات قد كشفت بالفعل عن الخواص الهندسية الجديدة للزمكان. إذا كان الانفجار العظيم قد مضى عليه 15 مليار سنة أو أكثر كما تم اكتشافه بواسطة تلسكوب الفضاء هابل، فإننا يمكن أن نرى شظايا هذا الانفجار على شكل مليارات المليارات من المجرات مازالت تتباعد إلى الخارج، فالكون في حالة توسع وتمدد ولا أحد يعرف إلى كم سيتمدد وماهي حدود توسعه وهل سيستمر إلى الأبد؟ إذ قد يأتي وقت يتباطأ عنده ثم يتوقف هذا التمدد أو التوسع الكوني لينعكس باتجاهه بعد ذلك ليؤدي إلى انهيار أو انكماش كوني تبعاً لمعدل متوسط كثافة المادة في الكون. فاذا تجاوز متوسط كثافة المادة الذي يعرف بالكثافة الحرجة critical densty التي تبلغ 29-10 (10 أس - 29) غرامات لكل متر مكعب من الكون. فان قوى جاذبية كبيرة بما يكفي ستجتاح الكون لتوقفه ثم تعكس اتجاه التمدد والعكس صحيح.
وإذا وصلت المسافات المعينة إلى ما يقرب من طول بلانك أو اقل فان ميكانيكا الكم تبطل فعل معادلات النسبية العامة كما نعرفها الآن، وبدلا من ذلك يمكن الاستفادة من نظرية الأوتار وافتراض أن الكون سيستمر في التوسع والتمدد إلى الأبد. وبينما تسمح النسبية العامة بالشكل الهندسي للكون أن يتضاءل اختياريا، بنفس الطريقة التي تسمح بها رياضيات هندسة ريمان لشكل مجرد أن يتخذ حجما يصل إلى اصغر ما يمكن تخيله فان الأمر يقود للتساؤل كيف ستعدل نظرية الأوتار هذه الصورة. وكما سنرى ألان فان هناك دليلا على أن نظرية الأوتار تضع حدا أدنى لقياس المسافات المتاحة فيزيائيا وتزعم بصورة جديدة تماما أن الكون لا يمكن ان ينضغط إلى حجم اصغر من طول بلانك في أي بعد من أبعاده الفضائية. وبذلك نكون قد تجنبنا الانهيار الهائل إلى حجم مساو للصفر لان نصف قطر الكون المقاس باستخدام مجسمات أنماط الأوتار الخفية يكون دائما اكبر من طول بلانك، هذه الأفكار دفعت الكثير من الفيزيائيين لاقتراح إعادة كتابة قوانين الكون رغم صعوبة تخيل انضغاط العالم إلى حبة صغيرة بحجم جسيمة بلانك، لا حجم لها على الإطلاق. أما علم الكون المبنى على الأوتار فهو مجال ما زال في مراحله الأولى لكنه يتضمن وعوداً بآمال كبيرة في التجديد في مجال التنظير الكوني واكتشاف أكوان أخرى خفية .